الراسخين في العلم يعلمون ما اشتبه على غيرهم

مجموع فتاوى ابن تيمية ، الجزء : 17 ، الصفحة : 381 عدد الزيارات: 19208 طباعة المقال أرسل لصديق

وكلام الإمام أحمد وغيره من السلف يحتمل أن يراد به هذا فإن أحمد ذكر في رده على الجهمية : أنها احتجت بثلاث آيات من المتشابه : قوله تعالى : { وهو الله في السماوات وفي الأرض } وقوله : { ليس كمثله شيء } وقوله : { لا تدركه الأبصار } وقد فسر أحمد قوله : { وهو الله في السماوات وفي الأرض } .
فإذا كانت هذه الآيات مما علمنا معناها لم تكن متشابهة عندنا وهي متشابهة عند من احتج بها وكان عليه أن يردها هو إلى ما يعرفه من المحكم وكذلك قال أحمد في ترجمة كتابه الذي صنفه في الحبس وهو الرد على الزنادقة والجهمية فيما شكت فيه من متشابه القرآن وتأولته على غير تأويله ثم فسر أحمد تلك الآيات آية آية فبين أنها ليست متشابهة عنده بل قد عرف معناها .
وعلى هذا فالراسخون في العلم يعلمون تأويل هذا المتشابه الذي هو تفسيره وأما التأويل الذي هو الحقيقة الموجودة في الخارج فتلك لا يعلمها إلا الله ولكن قد يقال هذا المتشابه الإضافي ليس هو المتشابه المذكور في القرآن فإن ذلك قد أخبر الله أنه لا يعلم تأويله إلا الله وإنما هذا كما يشكل على كثير من الناس آيات لا يفهمون معناها وغيرهم من الناس يعرف معناها وعلى هذا فقد يجاب بجوابين : أحدهما : أن يكون في الآية قراءتان قراءة من يقف على قوله إلا الله وقراءة من يقف عند قوله { والراسخون في العلم } وكلتا القراءتين حق ويراد بالأولى المتشابه في نفسه الذي استأثر الله بعلم تأويله ويراد بالثانية المتشابه الإضافي الذي يعرف الراسخون تفسيره وهو تأويله ومثل هذا يقع في القرآن كقوله : { وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال } و ( لتزول فيه قراءتان مشهورتان بالنفي والإثبات وكل قراءة لها معنى صحيح .
وكذلك القراءة المشهورة : { واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة } وقرأ طائفة من السلف : لتصيبن الذين ظلموا منكم خاصة وكلا القراءتين حق فإن الذي يتعدى حدود الله هو الظالم وتارك الإنكار عليه قد يجعل غير ظالم لكونه لم يشاركه وقد يجعل ظالما باعتبار ما ترك من الإنكار الواجب وعلى هذا قوله : { فلما نسوا ما ذكروا به أنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس بما كانوا يفسقون } فأنجى الله الناهين .
وأما أولئك الكارهون للذنب الذين قالوا : { لم تعظون قوما } فالأكثرون على أنهم نجوا لأنهم كانوا كارهين فأنكروا بحسب قدرتهم .
وأما من ترك الإنكار مطلقا فهو ظالم يعذب كما قال النبي صلى الله عليه وسلم { إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه } وهذا الحديث موافق للآية .
والمقصود هنا أنه يصح النفي والإثبات باعتبارين كما أن قوله : { لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة } أي لا تختص بالمعتدين بل تتناول من رأى المنكر فلم يغيره ومن قرأ لتصيبن الذين ظلموا منكم خاصة أدخل في ذلك من ترك الإنكار مع قدرته عليه وقد يراد بذلك أنهم يعذبون في الدنيا ويبعثون على نياتهم كالجيش الذين يغزون البيت فيخسف بهم كلهم ويحشر المكره على نيته .
والجواب الثاني : القطع بأن المتشابه المذكور في القرآن هو تشابهها في نفسها اللازم لها وذاك الذي لا يعلم تأويله إلا الله وأما الإضافي الموجود في كلام من أراد به التشابه الإضافي فمرادهم أنهم تكلموا فيما اشتبه معناه وأشكل معناه على بعض الناس وأن الجهمية استدلوا بما اشتبه عليهم وأشكل وإن لم يكن هو من المتشابه الذي لا يعلم تأويله إلا الله وكثيرا ما يشتبه على الرجل ما لا يشتبه على غيره .
ويحتمل كلام الإمام أحمد أنه لم يرد إلا المتشابه في نفسه الذي يلزمه التشابه لم يرد بشيء منه التشابه الإضافي وقال تأولته على غير تأويله أي غير تأويله الذي هو تأويله في نفس الأمر وإن كان ذلك التأويل لا يعلمه إلا الله وأهل العلم يعلمون أن المراد به ذلك التأويل فلا يبقى مشكلا عندهم محتملا لغيره ولهذا كان المتشابه في الخبريات إما عن الله وإما عن الآخرة وتأويل هذا كله لا يعلمه إلا الله بل المحكم من القرآن قد يقال له تأويل كما للمتشابه تأويل .
كما قال : { هل ينظرون إلا تأويله } ومع هذا فذلك التأويل لا يعلم وقته وكيفيته إلا الله وقد يقال : بل التأويل للمتشابه لأنه في الوعد والوعيد وكله متشابه وأيضا فلا يلزم في كل آية ظنها بعض الناس متشابها أن تكون من المتشابه .
فقول أحمد احتجوا بثلاث آيات من المتشابه وقوله ما شكت فيه من متشابه القرآن قد يقال إن هؤلاء أو إن أحمد جعل بعض ذلك من المتشابه وليس منه فإن قول الله تعالى : { منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات } لم يرد به هنا الإحكام العام والتشابه العام الذي يشترك فيه جميع آيات القرآن وهو المذكور في قوله : { كتاب أحكمت آياته ثم فصلت } وفي قوله : { الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم } فوصفه هنا كله بأنه متشابه أي متفق غير مختلف يصدق بعضه بعضا وهو عكس المتضاد المختلف المذكور في قوله : { ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا } وقوله : { إنكم لفي قول مختلف } { يؤفك عنه من أفك } فإن هذا التشابه يعم القرآن كما أن إحكام آياته تعمه كله وهنا قد قال : { منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات } فجعل بعضه محكما وبعضه متشابها فصار التشابه له معنيان وله معنى ثالث وهو الإضافي يقال قد اشتبه علينا هذا كقول بني إسرائيل : { إن البقر تشابه علينا } وإن كان في نفسه متميزا منفصلا بعضه عن بعض .
وهذا من باب اشتباه الحق بالباطل كقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث : { الحلال بين والحرام بين .
وبين ذلك أمور متشابهات لا يعلمهن كثير من الناس } فدل ذلك على أن من الناس من يعرفها فليست مشتبهة على جميع الناس بل على بعضهم بخلاف ما لا يعلم تأويله إلا الله فإن الناس كلهم مشتركون في عدم العلم بتأويله ومن هذا ما { يروى عن المسيح - عليه السلام - أنه قال : الأمور ثلاثة : أمر تبين رشده فاتبعوه وأمر تبين غيه فاجتنبوه وأمر اشتبه عليكم فكلوه إلى عالمه } .
فهذا المشتبه على بعض الناس يمكن الآخرين أن يعرفوا الحق فيه ويبينوا الفرق بين المشتبهين وهذا هو الذي أراده من جعل الراسخين يعلمون التأويل فإنه جعل المشتبهات في القرآن من هذا الباب الذي يشتبه على بعض الناس دون بعض ويكون بينهما من الفروق المانعة للتشابه ما يعرفه بعض الناس وهذا المعنى صحيح في نفسه لا ينكر ولا ريب أن الراسخين في العلم يعلمون ما اشتبه على غيرهم وقد يكون هذا قراءة في الآية كما تقدم من أنه يكون فيها قراءتان ; لكن لفظ التأويل على هذا يراد به التفسير ووجه ذلك أنهم يعلمون تأويله من حيث الجملة كما يعلمون تأويل المحكم فيعرفون الحساب والميزان والصراط والثواب والعقاب وغير ذلك مما أخبر الله به ورسوله معرفة مجملة فيكونون عالمين بالتأويل وهو ما يقع في الخارج على هذا الوجه ولا يعلمونه مفصلا إذ هم لا يعرفون كيفيته وحقيقته إذ ذلك ليس مثل الذي علموه في الدنيا وشاهدوه وعلى هذا يصح أن يقال علموا تأويله وهو معرفة تفسيره ويصح أن يقال لم يعلموا تأويله وكلا القراءتين حق .