القراءات في قوله تعالى إن يكن منكم عشرون صابرون

التفسير الكبير ، الصفحة : 153 عدد الزيارات: 29829 طباعة المقال أرسل لصديق

( يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفا من الذين كفروا بأنهم قوم لا يفقهون ) قوله تعالى :( ياأيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين ياأيها النبي حرض المؤمنين على القتال إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفا من الذين كفروا بأنهم قوم لا يفقهون ) .
اعلم أنه تعالى لما وعده بالنصر عند مخادعة الأعداء ، وعده بالنصر والظفر في هذه الآية مطلقا على جميع التقديرات ، وعلى هذا الوجه لا يلزم حصول التكرار ؛ لأن المعنى في الآية الأولى : إن أرادوا خداعك كفاك الله أمرهم ، والمعنى في هذه الآية عام في كل ما يحتاج إليه في الدين والدنيا وهذه الآية نزلت بالبيداء في غزوة بدر قبل القتال ، والمراد بقوله :( ومن اتبعك من المؤمنين ) الأنصار وعن ابن عباس رضي الله عنهما ، نزلت في إسلام عمر ، قال سعيد بن جبير : أسلم مع النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة وثلاثون رجلا وست نسوة ، ثم أسلم عمر ، فنزلت هذه الآية ، قال المفسرون : فعلى هذا القول هذه الآية مكية ، كتبت في سورة مدنية بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وفي الآية قولان : الأول : التقدير : الله كافيك وكافي أتباعك من المؤمنين ، قال الفراء : الكاف في "حسبك" خفض " ومن " في موضع نصب والمعنى : يكفيك الله ويكفي من اتبعك ، قال الشاعر : إذا كانت الهيجاء وانشقت العصا فحسبك والضحاك سيف مهند قال : وليس بكثير من كلامهم أن يقولوا : حسبك وأخاك ، بل المعتاد أن يقال حسبك وحسب أخيك .
والثاني : أن يكون المعنى كفاك الله وكفاك أتباعك من المؤمنين .
قال الفراء : وهذا أحسن الوجهين ، أي ويمكن أن ينصر القول الأول بأن من كان الله ناصره امتنع أن يزداد حاله أو ينقص بسبب نصرة غير الله ، وأيضا إسناد الحكم إلى المجموع يوهم أن الواحد من ذلك المجموع لا يكفي في حصول ذلك المهم ، وتعالى الله عنه ويمكن أن يجاب عنه بأن الكل من الله ، إلا أن من أنواع النصرة ما لا يحصل بناء على الأسباب المألوفة المعتادة ، ومنها ما يحصل بناء على الأسباب المألوفة المعتادة ، فلهذا الفرق اعتبر نصرة المؤمنين ، ثم بين أنه تعالى وإن كان يكفيك بنصره وبنصر المؤمنين ، فليس من الواجب أن تتكل على ذلك إلا بشرط أن تحرض المؤمنين على القتال فإنه تعالى إنما يكفيك بالكفاية بشرط أن يحصل منهم بذل النفس والمال في المجاهدة .
فقال :( ياأيها النبي حرض المؤمنين على القتال ) والتحريض في اللغة كالتحضيض وهو الحث على الشيء ، وذكر الزجاج في اشتقاقه وجها آخر بعيدا ، فقال : التحريض في اللغة أن يحث الإنسان غيره على شيء حثا يعلم منه أنه إن تخلف عنه كان حارضا ، والحارض الذي قارب الهلاك ، أشار بهذا إلى أن المؤمنين لو تخلفوا عن القتال بعد حث النبي صلى الله عليه وسلم ، كانوا حارضين ، أي هالكين .
فعنده التحريض مشتق من لفظ الحارض والحرض .
ثم قال :( إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين ) وليس المراد منه الخبر بل المراد الأمر كأنه قال :( إن يكن منكم عشرون ) فليصبروا وليجتهدوا في القتال حتى يغلبوا مائتين والذي يدل على أنه ليس المراد من هذا الكلام الخبر وجوه : الأول : لو كان المراد منه الخبر ، لزم أن يقال : إنه لم يغلب قط مائتان من الكفار عشرين من المؤمنين ، ومعلوم أنه باطل .
الثاني : أنه قال( الآن خفف الله عنكم ) [الأنفال : 66] والنسخ أليق بالأمر منه بالخبر .
الثالث : قوله من بعد :( والله مع الصابرين ) [الأنفال : 66] وذلك ترغيبا في الثبات على الجهاد ، فثبت أن المراد من هذا الكلام هو الأمر وإن كان واردا بلفظ الخبر ، وهو كقوله تعالى :( والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين ) [البقرة : 233]( والمطلقات يتربصن بأنفسهن ) [البقرة : 228] ، وفيه مسائل : المسألة الأولى : قوله :( إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفا من الذين كفروا ) حاصله وجوب ثبات الواحد في مقابلة العشرة ، فما الفائدة في العدول عن هذه اللفظة الوجيزة إلى تلك الكلمات الطويلة ؟ وجوابه : أن هذا الكلام إنما ورد على وفق الواقعة ، وكان رسول الله يبعث السرايا ، والغالب أن تلك السرايا ما كان ينتقص عددها عن العشرين وما كانت تزيد على المائة ، فلهذا المعنى ذكر الله هذين العددين .
المسألة الثانية : قرأ نافع وابن كثير وابن عامر " إن تكن " بالتاء ، وكذلك الذي بعده " وإن تكن منكم مائة صابرة " وقرأ أبو عمرو الأول بالياء والثاني بالتاء والباقون بالياء فيهما .
المسألة الثالثة : أنه تعالى بين العلة في هذه الغلبة ، وهو قوله :( بأنهم قوم لا يفقهون ) وتقرير هذا الكلام من وجوه : الوجه الأول : أن من لا يؤمن بالله ولا يؤمن بالمعاد ، فإن غاية السعادة والبهجة عنده ليست إلا هذه الحياة الدنيوية ، ومن كان هذا معتقده فإنه يشح بهذه الحياة ، ولا يعرضها للزوال ، أما من اعتقد أنه لا سعادة في هذه الحياة وأن السعادة لا تحصل إلا في الدار الآخرة فإنه لا يبالي بهذه الحياة الدنيا ، ولا يلتفت إليها ولا يقيم لها وزنا ، فيقدم على الجهاد بقلب قوي وعزم صحيح ، ومتى كان الأمر كذلك ، كان الواحد من هذا الباب يقاوم العدد الكثير من الباب الأول .
الوجه الثاني : أن الكفار إنما يعولون على قوتهم وشوكتهم ، والمسلمون يستعينون بربهم بالدعاء والتضرع ، ومن كان كذلك كان النصر والظفر به أليق وأولى .
الوجه الثالث : وهو وجه لا يعرفه إلا أصحاب الرياضات والمكاشفات ، وهو أن كل قلب اختص بالعلم والمعرفة كان صاحبه مهيبا عند الخلق ، ولذلك إذا حضر الرجل العالم عند عالم من الناس الأقوياء الجهال الأشداء ، فإن أولئك الأقوياء الأشداء الجهال يهابون ذلك العالم ويحترمونه ويخدمونه ، بل نقول : إن السباع القوية إذا رأت الآدمي هابته وانحرفت عنه ، وما ذاك إلا أن الآدمي بسبب ما فيه من نور العقل يكون مهيبا ، وأيضا الرجل الحكيم إذا استولى على قلبه نور معرفة الله تعالى ، فإنه تقوى أعضاؤه وتشتد جوارحه ، وربما قوي عند ظهور التجلي في قلبه على أعمال يعجز عنها قبل ذلك الوقت .
إذا عرفت هذا فالمؤمن إذا أقدم على الجهاد فكأنه بذل نفسه وماله في طلب رضوان الله ، فكان في هذه الحالة كالمشاهد لنور جلال الله فيقوى قلبه وتكمل روحه ويقدر على ما لا يقدر غيره عليه ، فهذه أحوال من باب المكاشفات تدل على أن المؤمن يجب أن يكون أقوى قوة من الكافر ، فإن لم يحصل فذاك لأن ظهور هذا التجلي لا يحصل إلا نادرا وللفرد بعد الفرد ، والله أعلم .