تفسير آيات موالاة الكفار في سورة النساء

أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن ، الجزء : 1 ، الصفحة : 414 عدد الزيارات: 20076 طباعة المقال أرسل لصديق

قوله تعالى : فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين ويقول الذين آمنوا أهؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم إنهم لمعكم حبطت أعمالهم فأصبحوا خاسرين .
ذكر في هذه الآية الكريمة أن الذين في قلوبهم مرض ، وهم المنافقون ، يعتذرون عن موالاة الكفار من اليهود بأنهم يخشون أن تدور عليهم الدوائر ، أي دول الدهر الدائرة من قوم إلى قوم ، كما قال الشاعر : [ الوافر ] إذا ما الدهر جر على أناس كلاكله أناخ بآخرينا يعنون إما بقحط فلا يميروننا ، ولا يتفضلوا علينا ، وإما بظفر الكفار بالمسلمين ، فلا يدوم الأمر للنبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه ، زعما منهم أنهم عند تقلب الدهر بنحو ما ذكر ، يكون لهم أصدقاء كانوا محافظين على صداقتهم ; فينالون منهم ما يؤمل الصديق من صديقه ، وأن المسلمين يتعجبون من كذبهم في إقسامهم بالله جهد أيمانهم ، إنهم لمع المسلمين ، وبين في هذه الآية : أن تلك الدوائر التي حافظوا من أجلها على صداقة اليهود ، أنها لا تدور إلا على اليهود ، والكفار ، ولا تدور على المسلمين ، بقوله : فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده الآية ، وعسى من الله نافذة ; لأنه الكريم العظيم الذي لا يطمع إلا فيما يعطي .
والفتح المذكور قيل : هو فتح المسلمين لبلاد المشركين ، وقيل : الفتح الحكم ، كقوله : ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين [ 7 89 ] ، وعليه فهو حكم الله بقتل مقاتلة بني قريظة ، وسبي ذراريهم ، وإجلاء بني النضير ، وقيل : هو فتح مكة ، وهو راجع إلى الأول .
وبين تعالى في موضع آخر أن سبب حلفهم بالكذب للمسلمين ، أنهم منهم ، إنما هو الفرق أي الخوف ، وأنهم لو وجدوا محلا يستترون فيه عن المسلمين لسارعوا إليه ؛ لشدة بغضهم للمسلمين ، وهو قوله : ويحلفون بالله إنهم لمنكم وما هم منكم ولكنهم قوم يفرقون لو يجدون ملجأ أو مغارات أو مدخلا لولوا إليه وهم يجمحون [ 9 56 ، 57 ] ، ففي هذه الآية بيان سبب أيمان المنافقين ، ونظيرها قوله : اتخذوا أيمانهم جنة [ 58 16 ] .
وبين تعالى في موضع آخر ، أنهم يحلفون تلك الأيمان ليرضى عنهم المؤمنون ، وأنهم إن رضوا عنهم ، فإن الله لا يرضى عنهم ، وهو قوله : يحلفون لكم لترضوا عنهم فإن ترضوا عنهم فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين [ 9 96 ] .
وبين في موضع آخر : أنهم يريدون بأيمانهم إرضاء المؤمنين ، وإن الله ورسوله أحق بالإرضاء ، وهو قوله : يحلفون بالله لكم ليرضوكم والله ورسوله أحق أن يرضوه إن كانوا مؤمنين [ 9 62 ] .
وبين في موضع آخر أنهم يحلفون لهم ليرضوا عنهم ، بسبب أن لهم عذرا صحيحا ، وأن الله أمرهم بالإعراض عنهم ، لا لأن لهم عذرا صحيحا ، بل مع الإعلام بأنهم رجس ، ومأواهم النار بسبب ما كسبوا من النفاق ، وهو قوله : سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم فأعرضوا عنهم إنهم رجس ومأواهم جهنم جزاء بما كانوا يكسبون [ 9 95 ] .
وبين في موضع آخر : أن أيمانهم الكاذبة سبب لإهلاكهم أنفسهم ، وهو قوله : وسيحلفون بالله لو استطعنا لخرجنا معكم يهلكون أنفسهم الآية [ 9 42 ] .
وهذه الأسباب لحلف المنافقين التي ذكرت في هذه الآيات راجعة جميعا إلى السبب الأول ، الذي هو الخوف ; لأن خوفهم من المؤمنين ، هو سبب رغبتهم في إرضائهم ، وإعراضهم عنهم بأن لا يؤذوهم ، ولذا حلفوا لهم ، ليرضوهم ، وليعرضوا عنهم ، خوفا من أذاهم ، كما هو ظاهر .
تنبيه قوله في هذه الآية الكريمة : ويقول الذين آمنوا أهؤلاء الذين أقسموا [ 5 53 ] فيه ثلاث قراءات سبعيات .
الأولى : يقول بلا واو مع الرفع ، وبها قرأ نافع ، وابن كثير ، وابن عامر .
الثانية : ويقول بإثبات الواو مع رفع الفعل أيضا ، وبها قرأ عاصم ، وحمزة ، والكسائي .
الثالثة : بإثبات الواو ، ونصب " يقول " عطفا على ( أن يأتي بالفتح ) وبها قرأ أبو عمرو .