تفسير قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ

فتاوى الشيخ ابن باز عدد الزيارات: 38222 طباعة المقال أرسل لصديق

تسأل عن تفسير قول الحق تبارك وتعالى: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ( إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا)[النساء:97].


هذه الآية الكريمة ذكر العلماء أنها نزلت في أناس تخلفوا في مكة ولم يهاجروا مع النبي -صلى الله عليه وسلم- فما كانت غزوة بدر أجبرهم الكفار على الخروج معهم، وحضروا القتال فنزلت الآية الكريمة فيهم لما قتل من قتل منهم، وإن قوله جل وعلا: (إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم). معنى ظالمي أنفسهم بالإقامة بين أظهر المشركين وهم قادرون على الهجرة، (قالوا فيم كنتم): يعني قالت لهم الملائكة فيم كنتم؟ (قالوا كنا مستضعفين في الأرض)، يعني في أرض مكة، (قالوا: ألم تكن أرض الله واسعة)، يعني قالت لهم الملائكة: (ألم تكن أرض الله واسعةً فتهاجروا فيها؟ فأولئك مأواهم جهنّم وساءت مصيرا. إلا المستضعفين).. الآية. فهو متوعدون بالنار لأنهم أقاموا بين أظهر الكفار من دون عذر، وكان الواجب عليهم أن يهاجروا إلى بلاد الإسلام، إلى المدينة المنورة، فلما أجبروا على الخروج وأكرهوا صار ذلك ليس عذراً لهم، وكان عملهم سبباً لهذا الإكراه، وسبباً لهذا الخروج فجاء فيهم هذا الوعيد. لكونهم عصوا الله بإقامتهم مع القدرة على الهجرة، ولم يكفروا لأنهم مكرهون، أخرجوا إلى ساحة القتال ولم يقاتلوا لكن قتلوا، قتل من قتل منهم، أما لو قاتلوا مختارين راضين غير مكرهين لكانوا كفارا، لأن من ظاهر الكفار وساعدهم يكون كافراً مثلهم، لكن هؤلاء لم يقاتلوا وإنما أكرهوا على الحضور وتكثير السواد فقط، فقتلوا من غير أن يقاتلوا، وقال آخرون من أهل العلم إنهم كفروا بذلك، لأنهم أقاموا من غير عذر، ثم خرجوا معهم، وفي إمكانهم التملص والخروج من بين الكفرة في الطريق، أو في حين التقاء الصفين، وفي إمكانهم أن يلقوا السلاح ولا يقاتلوا، وبكل حال فهم بين أمرين: من قاتل منهم وهو غير مكره فهو كافر، حكمه حكم الكفرة الذين قتلوا، وليس له عذر في أصل الإكراه لأنه لما أكره باشر وقاتل و مساعدة الكفار فصار معهم وصار مثلهم ودخل في قوله تعالى: (ومن يتولهم منكم فإنه منهم)، وقد أجمع العلماء رحمهم الله على أن من ظاهر الكفار والمشركين وساعدهم بالسلاح أو بالمال فإنه يكون كافرا مرتداً عن الإسلام، أما من أكره ولم يقاتل ولم يرض بقتال أهل الإسلام ولم يوافق على ذلك ولكن أجبر وأكره بالقوة والرباط والإكراه حتى وصل إلى ساحة القتال ولم يقاتل فهذا يكون عاصياً بأصل إقامته، ومتوعد على ذلك بالنار لأنه أقام معهم من دون عذر، ولهذا ذكر ابن كثير رحمه الله وجماعة آخرون من أهل العلم أن الإقامة بين أظهر الكفار وهو عاجز عن إظهار دينه محرمة بالإجماع، ليس للمسلم أن يقيم بين الكفار وهو يقدر على الهجرة، وهو لا يستطيع إظهار دينه بل ومغلوب على أمره، بل يجب عليه أن يهاجر بإجماع المسلمين لهذه الآية الكريمة، لأن الله وصفهم بأنهم ظلموا أنفسهم بهذه الإقامة وتوعدهم بالنار فدل ذلك على أنهم قد عصوا الله بهذه الإقامة، والهجرة لم تنقطع ما دام هناك دينان فالهجرة باقية، وإنما الهجرة التي انقطعت من مكة لما فتحت قال فيها النبي –صلى الله عليه وسلم- لا هجرة بعد الفتح، يعني من مكة، لأنها صارت بعد الإسلام بعد ما فتحها الله على يد النبي صلى الله عليه وسلم صارت بلد الإسلام فقال فيها النبي صلى الله عليه وسلم: (لا هجرة بعد الفتح). يعني من مكة بعد الفتح، أما الهجرة في أصلها هي باقية، ولهذا جاء في الحديث الآخر: (لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة). فكل بلدٍ ضار فيها الكفار، ولم يستطيع المسلم فيها إظهار دينه، ولا إقامة دينه ولم يستطع الخروج يلزمه أن يهاجر فإن أقام كان عاصياً بالإجماع، أما المستضعف من الرجال والنساء والولدان فقد عذرهم الله. وهم الذي لا يستطيعون حيلة لعدم النفقة أو لأنهم مقيدون، مسجونون، أو لا يهتدون سبيلاً لأنهم جهال بالطريق، لا يعرفون الطريق، لو خرجوا هلكوا، لا يعرفون السبيل فهم معذورون حتى يسهل الله لهم فرجاً ومخرجاً من بين أظهر المشركين، والله المستعان.